الإسلام في صربيا.. قرون الاضطهاد والتهميش




ربما لم يظلم التاريخ أو الجغرافيا مجتمعات إسلامية مثل مجتمعات مسلمي البلقان، فتلك البلاد التي تقع في منطقة تماس بين الشرق والغرب، نظر إليها الغربيون والأوروبيون عبر التاريخ بوصفها بوابة محتملة يمكن أن ينفذ منها المسلمون إلى أوروبا، وأرادوا لها دومًا أن تصبح عازلًا بشريًّا وحضريًّا لهم مع المسلمين.


وعليه صبوا فيها جام مؤامراتهم، أما المسلمون، الذين امتدت دولهم على أراضي واسعة الأطراف، فقد كانت البلقان بالنسبة لهم بلادًا بعيدة، لم تحظ في كثير من الأحيان بالدعم (أو حتى التعاطف الكافي) الذي يتناسب مع الأحداث الكبرى التي وقعت فيها.


في السطور التالية، نسلط الضوء على واقع المسلمين في البلقان، وبالتحديد في دولة صربيا، التي عانى فيها المسلمون أشد العناء، في رحلة ممتدة لأكثر من قرنين.


الإسلام في البلقان.. الصعود والسقوط

يشير مصطلح البلقان إلى شبه الجزيرة الواقعة جنوب شرقي القارة الأوروبية، وهي منطقة وعرة التضاريس تتكون من سلاسل من الجبال الشاهقة، تسمى جبال البلقان، تمتد المنطقة على مساحة أكثر من 550 كيلومترًا مربعًا، وتضم دول البلقان اليوم كلًّا من ألبانيا، وبلغاريا، والبوسنة والهرسك، وكوسوفو، ومقدونيا، والجبل الأسود، ومعظم أجزاء كرواتيا، وصربيا، واليونان، وأجزاء صغيرة من كل من رومانيا، وسلوفينيا، وإيطاليا، وتركيا.


دخل الإسلام إلى أراضي البلقان على عدة مراحل، كان أولها توافد التجار المسلمين إلى البلقان للتجارة وجلب الفراء والجلود البلغارية، خلال مرحلة الدولة العباسية، واستطاعوا وضع نواة للدعوة الإسلامية في تلك المنطقة، ثم لعبت «القبيلة الذهبية» – التي كانت فرعًا من البيت المغولي واعتنقت الإسلام- دورًا في مد رقعة الإسلام في شرق أوروبا.




لكن التوسع الحقيقي للإسلام في البلقان جاء مع فتوح الدولة العثمانية، التي كانت على خط التماس مع بلغاريا، وقد جاءت «معركة كوسوفو»  1389م التي انتصر فيها العثمانيون، وفيها سقط السلطان العثماني مراد الأول قتيلًا في أرض المعركة، لترسخ سيطرة العثمانيين على البلقان، وهي الفتوحات التي توسعت بعد تمكن السلطان محمد الثاني من إسقاط مدينة القسطنطينية عام 1453م، لتتحول البلقان إلى ولاية عثمانية بالكامل، وتمدد الدين الإسلامي وازدهر في تلك المنطقة من العالم.


شهد القرن الثامن عشر فقدان الدولة العثمانية – التي بدأ يعتريها الضعف والانحلال حتى صارت تُسمى «رجل أوروبا المريض»- سيطرتها على البلقان، كان الصربيون هم أول من ثار عليهم، وتمكنوا من إجلاء العثمانيين عن صربيا، لتتبع ثورات وتمردات في بقية المناطق بدعم من خصوم الدولة العثمانية، ولا سيما روسيا والنمسا صاحبتا المطامع في البلقان، في تلك الفترة قامت صربيا بحملات إبادة وتهجير عرقية واسعة، أدت إلى مسح وجود المسلمين في صربيا بشكل شبه كامل، فمن إجمالي 600 ألف مسلم كانوا يعيشون في صربيا عام 1809 لم يبق منهم بحلول عام 1866 سوى 5 آلاف مسلم!


وقد ضعفت سلطة العثمانيين في المنطقة إلى حد أن الدول البلقانية التي استقلت عنها (صربيا وبلغاريا واليونان) قد شنت بين عامي 1912 و1913 ما عرف بـ«حروب البلقان» والتي أنهت فيها سيطرة العثمانيين على ما تبقى من تلك المنطقة، سادت في تلك الفترة أجواء عدائية ضد المسلمين، وعمدت القوات الصربية إلى قتل المسلمين أو تهجيرهم، حتى في المناطق التي كانوا يشكلون فيها أغلبية مطلقة، ودفعت بهم إلى هجرات جماعية وصلت ذروتها في الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.


مسلمو صربيا.. تاريخ لا ينتهي من «الاضطهاد»

لا توجد إحصائيات دقيقة لأعداد المسلمين في البلقان، لكن آخر التقديرات تشير إلى أنهم يمثلون ما بين 10-15% من سكان المنطقة، أي نحو 8- 12 مليون شخص، يتوزعون على دول البلقان المختلفة، ففي كل من ألبانيا وكوسوفو يشكل المسلمون الأغلبية المطلقة في البلاد، وفي البوسنة والهرسك، يشكل المسلمون أغلبية نسبية مقارنة بأعداد كل من الصرب والكروات، وفي مقدونيا مثَّل المسلمون نحو نصف السكان، و15% من سكان بلغاريا، وهم أقلية في كل من رومانيا واليونان وكرواتيا وسلوفينيا والمجر.


أما بالنسبة لصربيا نفسها، فيبلغ عدد المسلمين اليوم فيها نحو 240 ألف نسمة، يمثلون نحو 3% من السكان،  أغلبهم يقطن في إقليم السنجق الذي يقع على خط التماس بين صربيا والجبل الأسود وكوسوفو والبوسنة والهرسك، ويشكل المسلمون من البوشناق نحو 65% من سكانه، مركز الثقل الآخر للمسلمين تمثله منطقة «بريشيفسكو دولينا» الواقعة في جنوب صربيا والمحاذية للحدود المقدونية، وينحدر مسلموها من العرقية الألبانية، ولا يبلغ تعداد المسلمين في المناطق الداخلية لصربيا أكثر من 20 ألف نسمة، يعيش معظمهم في العاصمة بلجراد.


كان «الاتحاد اليوغوسلافي الاشتراكي» بزعامة جوزيف تيتو هو الإطار السياسي الذي انتظمت فيه دول البلقان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، لكن وفاة تيتو عام 1980 أدخلت الاتحاد في سلسلة من الاضطرابات السياسية والعسكرية انتهت بتفككه، ليصاحب هذا التفكك توترات عرقية ودينية راح ضحيتها عشرات الآلاف، كان أبرزها ما عُرف بحرب البوسنة بين عامي 1992 و1995.


كانت البوسنة والهرسك خليطًا غير متجانس من المسلمين والصرب والكروات، وحين أعلن مسلمو البوسنة استقلال البلاد وتكوين جمهورية منفصلة عن يوغوسلافيا (اتحاد كل من صربيا والجبل الأسود وكان آخر ما تبقى من الاتحاد الشيوعي المنهار)، شن كل من صرب وكروات البوسنة حربًا ضروسًا على المسلمين.


تلقى صرب البوسنة دعمًا سياسيًّا وعسكريًّا من صربيا المجاورة، كما دعمت دولة كرواتيا الكروات في البوسنة، بالتزامن، عاش مسلمو صربيا جوًّا مشحونًا بالعداء والضغط النفسي، حيث يسود جو عام داخل المجتمع الصربي يمجِّد المذابح التي تعرض لها إخوانهم من المسلمين البوشناق في البوسنة، ويحيي الشعب في صربيا ذكرى مذبحة «سربرينيتسا» تشفيًا بالمسلمين، حتى إن السلطات تسمح للبلديات المحلية بإطلاق اسميْ مجرمَي الحرب من صرب البوسنة المسؤولين عن تلك المذابح على عدة شوارع في عدد من المدن الصربية.


ما الذي يعنيه أن تكون مسلمًا في صربيا اليوم؟

حين غادر العثمانيون صربيا، كان في العاصمة بلجراد وحدها أكثر من 300 مسجد، اليوم لم يبق في المدينة سوى مسجد وحيد نجا من الهدم، هو مسجد باجراكلي الذي يعود تاريخه إلى عام 1575، وتضيق السلطات على الجالية الإسلامية في بلجراد فيما يتعلق بدور العبادة، وتنقل وكالة «رويترز» عن مفتى الجالية الإسلامية في صربيا محمد حمدي يوسف سباهيتش، أن الجالية «سعت للحصول على تصاريح لبناء مساجد على مدى عقود، لكن كل تلك الطلبات توضع في الأدراج، ولا تصل حتى إلى مرحلة التأهل لتقديم الأوراق».


أما في إقليم السنجق، وبريشيفسكو دولينا، وهما مساحتي التركز الأساسية بالنسبة لمسلمي صربيا، فرغم تمكن الجماعة الإسلامية في صربيا من بناء المزيد من المساجد، لا يزال المسلمون يعانون من تضييق كبير على حرياتهم الدينية؛ إذ يتعرض رجال الدين للاعتقال من داخل المساجد على يد الشرطة الصربية، كما تتدخل السلطات في عمل «الجماعة الإسلامية» في صربيا، وهي المؤسسة الممثلة للمسلمين في البلاد، فتصر على قطع الروابط بينها وبين فروع الجماعة الإسلامية الأم في البوسنة والهرسك (تمثل تلك الجماعة الإطار الجامع للعمل الإسلامي ولها فروع في كل دولة من دول البلقان).


وهذا بعكس الطريقة التي تتعامل بها الدولة مع مؤسسة الكنيسة، إذ لا تزال الكنيسة الصربية الأرثوذكسية لا تعترف باستقلالية الكنيستين الأرثوذكسيتين في كل من مقدونيا والجبل الأسود، رغم أن كلتيهما دولة مستقلة ذات سيادة، وتلقى الكنيسة الصربية الأرثوذكسية دعمًا في ذلك من المؤسسات الرسمية الصربية، رغم أن هذا يعد مخالفًا لنصوص الدستور التي تنص أن الدولة تقف على مسافة واحدة بين كل الأديان، ولا تتدخل في عمل الجمعيات الدينية.


اقتصاديًّا، يعد إقليم السجق أحد الأمثلة الصارخة على التهميش المتعمد للمسلمين في البلاد، فالإقليم واحد من أفقر المناطق في البلاد، لا شبكات نقل، لا خدمات جيدة، ولا خطط للتنمية تلوح في الأفق، ونسبة العاطلين عن العمل بين المسلمين مرتفعة جدًّا إذا ما قورنت بالمواطنين الصرب، كما أن نسبة المسلمين الذين يحصلون على تعليم عالٍ أو جامعي منخفضة للغاية، ويجبر مديرو المدارس في المناطق المسلمة على وضع صورة مؤسس الكنيسة الأرثوذكسية، القديس سافا، في كل الفصول الدراسية، حتى في الفصول التي كل طلابها من المسلمين.


أضف إلى ذلك أن تمثيل المسلمين في المناصب المهمة، وفي مؤسسات الحكم المحلي في إقليم السنجق والمقاطعات ذات الأغلبية المسلمة، هو تمثيل منخفض للغاية، حيث إن كل الوظائف المهمة في مختلف القطاعات – السياسية والاقتصادية والتعليمية- يديرها الصرب، ويمكن القول بأن المسلمين في البلاد يفتقرون إلى الكثير من حقوق المواطنة، حتى إن كلمة «صربي» تعني لدى التيار العام «مسيحيًّا أرثوذكسيًّا»، أما المسلمون، ثقافة وشعبًا، فيقعون على الهامش تمامًا.


المصدر : a7ssan + مواقع إلكترونية

تعليقات