منذ عقود بسطت الولايات المتحدة الأمريكية هيمنتها على الأقتصاد العالمي من خلال عملتها الخضراء، والتي تتميز بمزايا غير عادلة تجعلها أقوى العملات الورقية على مر التاريخ، ولا نقصد هنا سعر الصرف أو القوة الشرائية فحسب بل القوة الفاعلة في أحداث تغيير جزري على الساحة العالمية ولا سيما من يخرج عن الخارطة الغربية.
كيف هيمن الدولار على الأسواق العالمية؟
عقب الحرب العالمية الثانية وبسبب ضعف معظم اقتصاديات أوروبا ولا سيما الحلفاء، وفي الوقت الذي كانت فيه أمريكا وحدها تمتلك 75% من الذهب في العالم، وكانت الدولة الوحيدة أيضاً التي تمتلك غطاء من الذهب لعملتها، بعدما تخلت معظم دول العالم عن غطاء الذهب بسبب التضخم الذي عصف بمعظم اقتصاديات العالم بفعل الحرب.
وافقت الولايات المتحدة على استبدال عملتها بالذهب بسعر ثابت وهو 35 دولار للأونصة، وبفضل الإستقرار الذي شهده الاقتصاد الأمريكي بين الأعوام 1946 و 1971 تهافتت الدول على تخزين الدولار بدلاً من الذهب على أمل تحويله إلى ذهب في المستقبل إذا ما اضطرت لذلك.
عرف ذلك النظام بأسم بريتون وودز، وفي أثناء ذلك كانت الدول الأعضاء في هذا النظام حرة في تسعير عملتها مقابل العملات الأخرى ما عدا الذهب، وبدأ تسعير العديد من البضائع بين الدول بالدولار، ما زاد من الإقبال على تخزينه واستخدامه على نطاق واسع.
وفي عام 1971 أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية وقف تحويل الدولار إلى الذهب فيما عرفت وقتها بصدمة نيكسون، ولكن ما الذي دفع الدول إلى الإستمرار في التعامل بالدولار بدلاً من العودة إلى النظام القديم؟
كان من المفترض أن تتخلص الدول تدريجياً من احتياطاتها من الدولار والعودة إلى الأصول الثابتة مثل الذهب لحفظ ثرواتها، ومع ذلك لم يحدث ذلك، ففي عام 1973 ومع الحرب المصرية الإسرائيلية المعروفة بحرب أكتوبر بدأت الدول المنتجة للبترول بخفض إنتاجها منه، الأمر الذي تسبب في زيادة الطلب عليه بشكل كبير، ومع إرتفاع أسعاره من جهة و تسعيره بالدولار من جهة أخرى صب ذلك في مصلحة العملة الخضراء، إذ مع زيادة الطلب على البترول زاد معه الطلب على العملة التي يتم شراؤه بها.
من هنا شكل البترول ورقة ضغط على الدول للاحتفاظ بالدولار لسد احتياجاتها النفطية فيما عرف بالبيتر دولار.
حتى مع ظهور اليورو 1999 وانتشاره كعملة عالمية إلا أنه لم يتمكن من منافسة الدولار، والسبب عدم وجود خزانة أوروبية موحدة.
كيف تستخدم الولايات المتحدة الدولار كسلاح؟
مع كل هذه المزايا التي يتمتع بها الدولار لم يكن مستبعداً أن تستخدم الولايات المتحدة الدولار سلاحاً لا يختلف كثيراً عن الأسلحة العسكرية من أجل معاقبة كل من تسول له نفسه الخروج على الهيمنة الأمريكية.
يأتي ذلك من خلال رفعه أو خفضه، تقليل السيولة المعروضة منه أو زيادتها، خفض الفائدة أو زيادتها، كل ذلك دون الرجوع لآليات السوق ولكن بهدف الأضرار باقتصاديات ما وكبح صادراتها أو اغراقها في الديون أو الأضرار بإنتاج تلك الدول.
ولما لا وقد أصبحت الولايات المتحدة قادرة على طباعة ما تشاء من الدولارات دون رقيب، وتتحكم فيه بشكل كامل دون أي محاسبة، وهو ما أتاح لها التدخل في سياسات الدول الفقيرة والنامية، مثل فرضها على تلك الدول تعويم عملتها والاتجاه نحو الخصخصة وتحرير التجارة بينها وبين حلفاء الولايات المتحدة كي تكسب أسواق جديدة عاجزة عن التنافس معها.
والآن أصبحت العقوبات الاقتصادية على الدول بتجميد أصول بعض الدول أو حتى إلغاء التعامل بالدولار المتواجدة في بعض الدول مثل ما حدث بالعراق من حظر الدولارات بالبنك المركزي العراقي إبان الاجتياح الأميركي للعراق حتى تلك التي تم تهريبها خارج العراق.
محاولات ايجاد بديل للدولار
عند النظر إلى السياسة العالمية نستطيع تحديد بوصلة الاقتصاد، ذلك أن الاقتصاد ليس بمعزل عن السياسة فمحاولات الحد من هيمنة الدولار حتماً لن تأتي إلا من خصوم المعسكر الغربي متمثلا في الصين وروسيا والهند وجنوب أفريقيا وهي الدول نفسها التي أسست مجموعة البريكس، وهي مجموعة اقتصادية تسعى لتسيير التجارة بينها اعتماداً على العملات المحلية بدلاً من الدولار.
وعلى الرغم من أن تلك الدول تسعى جاهدة إلى تقليس نفوذ الدولار إلا أن الأمور أصعب من ذلك بكثير.
فمثلاً الصين وهي ثاني أكبر اقتصاديات العالم وأكبر أعضاء البريكس إقتصاديا يجمعها شراكة اقتصادية مع الولايات المتحدة تكاد تكون لصيقة إذ أي ضرر في إقتصاد أحدهما يؤثر على الآخر بشكل ليس بالقليل.
كذلك روسيا فمع اتساع الصراع على الجبهة الأوكرانية إلا أن احتياطيات الدولار في البنوك الروسية هي التي ساعدت بشكل كبير في تخفيف وطأة العقوبات الغربية على روسيا.
ولذلك فإن محاولة التخلص من هيمنة الدولار ليست بالسهلة إنما تحتاج إلى جهد كبير يستلزم مرونة وخطط بعيدة المدى وقوة عسكرية تستطيع الوقوف خلف ذلك.
هل يمكن أن نشهد تحولاً في الاقتصاد الحر يقضي على هيمنة الدولار؟
تتمتع الاقتصاديات الحرة بمزايا لا تملكها المؤسسات الحكومية، فيمكنها أن تحدد سياساتها النقدية على الأسس التي تراها مناسبة لها بعيداً عن سلطان الدولة.
تمتلك تلك الشركات المنتجات والخدمات التي تستطيع أن تحدد اسعارها وفق الآلية التي تراها مناسبة لها، من هنا إذا اتفقت تلك المؤسسات على تسعير خدمة ما على أساس أصل ثابت بدلاً من الدولار ستكون خطوة كبيرة نحو التخلص هيمنة الدولار.
فمثلاً إذا قامت شركة ما بتقديم خدماتها عالمياً بالسعر المحلي للدول التي تحصل على خدماتها بقيمة س من الذهب بالعملة المحلية بدلاً من الدولار مع تعهد تلك الدول بسهولة تحويل تلك المبالغ إلى الذهب عند طلب ذلك، يكون التعامل هنا على أساس الذهب وليس الدولار.
ومع ذلك ستواجهة تلك الوسيلة مشكلتان، أولهما هو عدم ثبات سعر الذهب عالمياً إذ قد ترتفع أو تنخفض قيمة الذهب عند تحويلة ومن ثم حدوث خسائر أو مكاسب وهو ما قد يفتح الباب أمام بعض الأنظمة الغير شفافة للتلاعب في أسعار الذهب لتحقيق مكاسب من وراء ذلك.
ثانيهما أن النظام العالمي لا يزال يعتمد الدولار كعملة عالمية ولا يحتاج الذهب في العمليات التجارية ما يعني تكدس الذهب عند تلك الشركات دون وجود وسيلة لتصريفه.
إذا فالطريقة الأمثل هي وقوف الكيانات السياسية والاقتصادية للدول التي ترغب في هذا التحول وراء تلك المؤسسات وتذليل تلك الصعاب أمامها إذا كانت جادة حقا في المضي قدماً نحو هذا التحول.
المصادر:
a7ssan + مواقع إلكترونية
تعليقات
إرسال تعليق