في هذا البحث يحاول الكاتب ( محمد همام ) التعمق في فلسفة الإجتماع الإسلامي ، و تصليت الضوء على عناصر هذا الإجتماع ، فهي أقرب أن تكون مدخلاً للتفكير في تفاصيل المشروع الاجتماعي الإسلامي ، حيث سيكون التركيز على الطابع المؤسسي و الإجتماعي لنظرية الإسلام في الدولة والعمران .
ونقصد بالاجتماع الإسلامي الشكل الذي يبنى به المجتمع نفسه ، وعلاقات الناس داخل شبكاتهم الإجتماعية ، و مستويات الإرتباط أو الإستقلال عن الدولة إدارياً أو مالياً أو سياسياً او أيديولوجيا .. أي علاقة المجتمع بالدولة .
يتضمن البحث مستويين متوازيين ، الأول يتعلق بنقد فلسفة المؤسسات "الحداثية" المنقولة ، التي تهيمن على العالم الإسلامي ، والثاني يبرز فلسفة البناء المؤسسي الإجتماعي الأصيل، عرضا وتطويرا واستشرافا، من خلال نموذج الوقف الإسلامي ودوره في تأسيس المجتمع الأهلي الإسلامي الفاعل والمشارك في التنمية والنهوض .
الفصل الأول : مؤسسة " الحداثة المعطوبة " من تدمير بنيات المجتمع إلى رهن الشعب للدولة واستعباده للحكومة :
المبحث الأول : في الحداثة المعطوبة :
1) الحداثة و التقليد :
أثبت النقد المعرفي والمنهجي أن الخطاب الحداثي العربي ، لم يكن ينتج، أو قل يبدع فكرا خاصا به، بل كان مقلدا للفكر الغربي ، ومحاكيا لأطروحاته وفلسفاته، إما عبر الاستنساخ أو التلفيق أو الاختزال ، مما كرس التبعية الفكرية للغرب، وعطل انطلاقة الإنتاجية الفكرية للعرب .
فالمستنسخ يسعى لينقل مباشرة كلية النسق الفكري للتيار الذي يميل إليه ، كما نجده في مشروع العروي ، برغم ادعائه بأنه ينقل الأفكار ولا يتحدث عن تجسيدها ، وأما الملفق فهو يقتبس إما من مستويات مختلفة لتيار واحد أو من أصناف متباينة من التيارات جملة من المقولات والتعاريف والمناهج المتفاوتة فيما بينها، فيركم بعضها على بعض، في بناء يفتقر إلى الانسجام والتماسك، وهذا نلحظه بسهولة في مشروع الجابري، بدعوى المعاصرة ، ومواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي .
وأما الاختزالي فهو الذي يقتصر على نقل بعض المفاهيم البارزة المنتمية إلى تيار معين أو إلى مستوى معين من مستوياته ، وأصحاب هذا المنحى كثر، نمثل لهم بتوفيق سَلّوم الذي يسعى كما يدعي إلى تطوير ما ينطوي عليه التراث أو الواقع العربي من عناصر وجوانب قريبة من إيديولوجية الطبقة العاملة ، وخاصة منها النزعات المادية، والديمقراطية، والاشتراكية .
هذه الأشكال المتنوعة من التقليد والمحاكاة ، هي التي أوقعت "الحداثيين" العرب في حرج كبير؛ إذ أخذت الأدوات المنقولة والأنساق المنسوخة تتهاوى بين أيديهم؛ من جراء تقلب أحوال الغرب المذهبية واختياراته الفكرية . ومازالت مجموعة من هؤلاء الحداثيين المقلدين مصرين على الاستمرار في تقليدهم، مرسخين حداثة فلسفية جامدة، توجب عليهم الاندماج الكلي في العصر الفلسفي على مقتضى ما قرره الغير في التفلسف، فيكون هذا الضرب من الحداثة إلى الوهم والأسطورة أقرب منه إلى الواقع والحقيقة .
إن التقليد يعتبر من الأساطير المؤسسة للحداثة العربية؛ إذ لم ينضبط الحداثي العربي بادعائه الرغبة في تحديث الذهنية، وتحديث المعايير العقلية والوجدانية ، أو أن الحداثة هي حداثة المنهج والرؤية والهدف، ثم الانتظام النقدي في الثقافة العربية نفسها ، بل إن الحداثة التي بشر بها هذا الحداثي العربي ، هي حداثة تقليد ؛ تقليد الغرب ، وفرض نمطه في التفكير ، من خلال السيطرة متعددة الأوجه .
فالحداثة في تصور "الحداثيين" العرب مرتبطة بأحداث "كونية" كبرى غيرت صورة العالم ، والتي تعتبر مفاصلها الكبرى هي القرون: الخامس عشر ، والثامن عشر ، والتاسع عشر ، فالحداثة الأوروبية أصبحث حداثة كونية، وينبغي السير على منوالها من حيث القطيعة الجذرية مع الماضي ومع ما كان موجودا .
والحقيقة أن الإبداع لا يتحقق إلا بالتحرر من مجموعة من الأساطير التي حماها الحداثيون العرب ورسوخها في الفهوم والعقول ، وكانت كلها موانع وعوائق أمام الابتكار والاختراع والإنشاء، وهذا ما عطل مشروع حداثة التقليد، وأصابه بالشلل، يعكس هذا الاضطرابُ الفكري والمنهجي الذي يعيشه الحداثيون العرب اليوم ، وحالات التيه والاغتراب التي لا يخجلون من التعبير عنها، في منتديات عدة .
2) الحداثة المعطوبة :
لم تعد "اللغة المراوغة" بما هي لازمة من لوازم نقد الحداثة وما بعد الحداثة، قادرة على إخفاء أزمة الحداثيين العرب ، عبر عنها شكري عياد بقوله: «فالكاتب منتم بفكره أو الأنا العليا إلى العالم الغربي الحديث ، بينما هو منتم بعلاقاته الاجتماعية أي بالأنا إلى المجتمع العربي، وبناء على ذلك فلن يكون أمامه خيار حين يكتب، إلا أن يكتب لقارئ على شاكلته، قارئ عربي ينتمي بفكره إلى العالم الغربي الحديث» ، فقد فشل الحداثيون العرب في إنشاء حداثة عربية حقيقية ، وأصبحت كتاباتهم أقرب إلى أن تكون دروسا في الفوضى الثقافية .
كما عجزوا عن تأصيل مقولاتهم الحداثية داخل الواقع الثقافي العربي ، وفشلت محاولات "أنسنة الدين" ، وتطبيق المبادئ النقدية على النصوص المقدسة ، وأحسن ما يمكن أن توصف به الحداثة العربية أنها حداثة معطوبة؛ انعكست فيها أزمة الإنسان الأوروبي المعاصر بعد أن فقد التحكم في عالمه، وبعد أن أصبح مهموما يوما بعد يوم بمشكلة تحديد موقعه في العالم الجديد .
فالحداثيون العرب وهم يبشرون بالمناهج الحديثة والمفاهيم الحداثية سواء في النقد الأدبي أو الدراسات اللغوية، أو المفاهيم الاجتماعية… كانوا مترجمين، فقط، وبأشكال رديئة لأطروحات الفلسفة الغربية كما هي عند هيوم، وكانط، وهيغل، ونيتشه، وهوسرل، وهايدجر وجادامر… قاصرين نظرهم على المضامين الفكرية التي انبنت عليها ، وليس الوسائل المنهجية التي استعملت في تبليغها. فينقلون هذه المفاهيم والأحكام تقليدا لغيرهم، وهم لا يدرون كيف يضعون مفاهيم حديثة مثلها ، ولا يهتدون إلى ضبط أحكامها بما يقوي إنتاجيتها ، ولا بالأولى إلى وضع هذه المفاهيم والأحكام في نسق واحد يجمعها ويولد بعضها من بعض .
لقد خرج الخطاب الحداثي العربي من سجاله الفلسفي والإبستيمولوجي الطابع حول الدين ووجود الله والوحي والمادة والغيب، خرج منهكا، ولم يستطع الصمود أمام كبرى اليقينيات التي كان يتحصن بها الخطاب الإسلامي، بل استطاع هذا الأخير نقض أوهام الخطاب الحداثي، وكشف تناقضاته، وتعويق امتداده بشكل منظم ومدروس ، وهذا ما جعل الخطاب الحداثي يفر إلى مناقشة قضايا أخرى غير مرتبطة بالدين بشكل مباشر كالديمقراطية، والتعددية السياسية، وحقوق الإنسان، في انقلاب درامي للدفاع عن قيم ليبرالية نقيضة لقيم الأمس .
3) الحداثة الأصيلة :
ارتبط مفهوم الحداثة عند كثير من المهتمين بما هو حديث، وجديد ومعاصر. وأصبح لا ينظر إلى الحداثة إلا من خلال نقائضها: القديم، الرجعية، التراث، التقليد...
والحقيقة أن المعنى الدقيق للحداثة يبقى غامضا وملتبسا، ولا يمكن الاطمئنان إلى تعاريف جاهزة ومنمطة ، كما لا يمكن وصف شخص أو أي مشروع بأنه "حداثي" ما لم نقف على آلياته في إنتاج المعرفة وسلوكه في الإنجاز على أرض الواقع .
والحداثة، إذن، ليست شيئا واحدا في المضمون الفكري أو السياسي أو الاجتماعي، بل هناك "حداثات" تتعدد بحسب الأفكار الفلسفية والاجتماعية المختلفة .
فالحداثة الغربية مثلا عبارة عن تمازج عناصر دينية وثقافية وفلسفية لها أصول إغريقية ورومانية ومسيحية كاثوليكية، ثم بروتستانتية أنكلو سكسونية، ثم توراتية ـ صهيونية ، وقد تجمعت هذه العناصر عبر عملية تشكل تاريخي وحضاري معقد و متداخل .
وعدم تبين هذه الاعتبارات هو الذي جعل الكثيرين يكفرون الحداثة بإطلاق، لأنهم يفهمونها إلحادا ، وجعل الكثيرين من الاتجاه المعاكس يبعدون الإسلام عن كل حركة الإنسان للواقع لأنهم يفهمونه تراجعا أو رجعية !
إن الحداثة ليست بالضرورة قطيعة مع الماضي أو حربا على الدين، أو في أحسن الأحوال، إحياء وتطويرا لما ينطوي عليه من إيديولوجية الباحث ونزعاته، لأن هذا الفهم هو أقرب إلى مذبحة الماضي، وكذا الدين منه إلى إحيائهما وتطوير مفاهيمهما .
وعليه يصبح ضروريا الحديث عن حداثة أصيلة ومأصولة من داخل المجال التداولي الأصيل، عقيدة ومعرفة ولغة؛ فالحداثة التي لم يتوفر فيها شرط الإبداع هي محض تقليد وعجز ، وهذا ما يلحظه المتتبع للمشاريع النقدية العربية المطروحة في الساحة الفكرية؛ إذ بقي تأثيرها محدودا، ولم تستطع تحقيق الحد الأدنى من تغيير العقلية والواقع العربيين .
فبقيت مشاريع غريبة، تناقش في "الصالونات"، وأروقة الفنادق والمنتديات الطوباوية، ومازال أصحابها من حُمَّال ألقاب "الحداثة" و"العقلانية" و"التقدمية" لم يعترفوا بعقم هذه المشاريع، أو على الأقل بنسبيتها، فيلتفتوا إلى تقويمها وتزويدها بما ينقصها من عناصر منهجية ومعرفية دافعة .
إنها مشاريع تجزيئية ومقلِّدة أخلت بشرط الاستنباط، واعتمدت منهجية مستوردة غير مستنبطة مما تضمنه الحقل المعرفي الأصيل، من أصول وقواعد مقررة، وما تفرع عنها من أحكام منهجية ، كما أخلت بشرط المناسبة؛ فأنزلت على المعرفة التراثية آليات غربية من دون تبين صلاحيتها الإجرائية، ولا تصحيح معاييرها، فافتقدت خاصية النقد والتقويم ، كما أخلت بشرط التقدم؛ إذ استغرقت هذه المشاريع في النظر في مضامين المعرفة التراثية، من غير اكتشاف آلياتها التي تولدت بها، وتفرعت عنها، وقد أوضح الدكتور طه عبد الرحمن هذه الآفات في كتب ودراسات كثيرة .
إن الحداثة الأصيلة القادرة على الدفع ، هي الحداثة المبدعة والمحترمة لشروط الإبداع والرافضة من منطلق تداولي للمقولات الوافدة إلينا من الغرب والتي تقول إن الدين شيء والعلم شيء آخر ، كما أن العقل شيء والدين شيء آخر .
ومن غير الدخول في جدل مفاهيمي عقيم! فالحداثة المبدعة والأصيلة، بنظرنا، هي التي يقودها علماء متدينون ، لا يشعرون بأن دينهم يقيد علمهم ، أو أن علمهم يصادر دينهم ، إنهم يرون الدين هو الذي يمر بطريق العلم؛ لأنهم كلما عقلوا العلم أكثر فهموا الكون أكثر، وكلما فهموا الكون أكثر عرفوا الله أكثر ، وهم يعتقدون أيضا بأن الدين لا يمر بطريق الجهل ، بل الجاهلون هم الذين يضيقون الدين ويجمدونه ، بل ويسقطونه (إنما يخشى الله من عباده العلماء) [فاطر: 28]، وهذا أمر كتب فيه كثيرا السيد محمد حسين فضل الله .
والحداثة الأصيلة ليست بالضرورة استخدام العقل وحده أو استيراد العلم والتكنولوجيا ، أو نماذج التنمية الموهومة ، وإنما هي استخدام للعقل في تكامل مع الوحي، وربط لعالم الشهادة بعالم الغيب في إطار رؤية توحيدية توكلية ، تأخذ بالسنن والأسباب، وتتأسس على قيم مطلقة؛ فالقيمة هي من خارج العملية العلمية، بل هي سابقة على العلم والمادة .
والإنسان من منظور الحداثة الأصيلة مكرم ومستخلف ومسخِّر للكون (ولقد كرمنا بني آدم) ، إذ بهذا التصور التكريمي ننأى عن الإفرازات المرضية للحداثة الغربية ، التي أعلنت منذ بدايتها أن العالم مكتف بذاته، ففصلت بين العقل والقيم الأخلاقية، وانتهت إلى تفكيك الإنسان ورده إلى حركة المادة ؛ إذ أصبح عند طوماس هوبز كالذئب أو الحجر المندفع، وعند سبينوزا كالساعة المتحركة بشكل آلي ، وعند داروين سليلَ القرود، وعند ماركس نتاج قوى الإنتاج، وعند فرويد أسير الغرائز، وعند بافلوف في تجارب الفعل الانعكاسي الشرطي كالكلب في ردود أفعاله.....
وأما الخطاب الحداثي الأصيل فلا يستسلم أمام هذه الأطروحات الفلسفية الحداثية، بل يرفضها، من موقع نقدي متفائل، عكس نقد ما بعد الحداثة ذي الطابع التشاؤمي العدمي ، فالخطاب الحداثي الأصيل خطاب جذري وتوليدي واستكشافي لا يهمه التوفيق أو التلفيق بين المنظومة الغربية الحديثة، والمنظومة الإسلامية الأصيلة، بل هو يبدأ بتعبير د. (عبد الوهاب المسيري) من نقد جذري للحضارة الغربية الحديثة ، ويحاول اكتشاف معالم هذه المنظومة الغربية باعتبارها رؤية كاملة للكون ، والإمساك بمفاتيحها مع الاحتفاظ بمسافة بينه وبينها ، فهو يعود للمنظومة الإسلامية بكل قيمها وخصوصياتها الدينية والأخلاقية والحضارية، ويستكشفها ويحاول تجريد نموذج معرفي متكامل منها، يمكنه من خلاله توليد إجابات على الإشكاليات التي تثيرها الحضارة الغربية، وعلى أية إشكالية جديدة .
إن الخطاب الحداثي الأصيل لا يقف عند شعار "الإسلام هو الحل" وهو بالمناسبة شعار إيديولوجي ينتج سلوكات احتجاجية وغوغائية أساءت لرسالة الإسلام العظيم ، بل يتجاوزه إلى طرح الإطار الفلسفي العميق: الإسلام هو رؤية للكون، أي يصدر عن رؤية معرفية شاملة يولد منها منظومات فرعية متنوعة .
إنه يؤسس لوعي نقدي منفتح ومتفائل ومكتشف للإمكانات التوليدية الخلاقة داخل المنظومة الإسلامية التي غفل عنها خطاب التقليد، وطمسها خطاب التغريب ، هذا الأخير الذي احترف في الآونة الأخيرة الهجوم على أي ثبات وأية معيارية داخل المنظومة الإسلامية ، وأنكر أية ركيزة نهائية، بل ليس القرآن الكريم عنده سوى نص تاريخي مغلق، ينتمي إلى لحظة تاريخية بائدة .
أما الخطاب الحداثي الأصيل فإنه ينطلق من أن ثمة مطلقا واحدا هو الله سبحانه وتعالى؛ وبسبب وجوده خارج الزمان والمكان والبشر فهو مركز الكون الذي يمنحه الهدف والغاية والمعنى؛ وأنزل الكتب وأرسل الرسل لهداية الناس وتوجيههم إلى الصراط المستقيم، معتمدين على ملكاتهم وقدراتهم في تناغم مثمر وحاسم بين الوحي والعقل .
وهذا ما لم يستطع فهمه الخطاب الحداثي المتغرب، وبقي مسترخيا ومقلدا ومنتظرا للإجابات الغربية من خارج منظومته ومجاله التداولي ، فطال انتظاره فبدأ يتآكل حتى انفرط عقده أو كاد .
يتبع إن شاء الله .....